اخترنا لكم

مشروع موازنة حكومة “العودة المَشروطة”

كتب الباحث في الشؤون الماليَّة والإقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر في موقع mtv:

بَعد طولِ تَعطيل، تمَّ الافراجُ المَشروط عن جَلَساتِ الحكومة تزامناً مع القَبضِ على جدولِ أعمالهِا وتحويلِها إلى حكومة “موازنة” ببندٍ وحيدٍ مُسبَقِ التحديد تَعودُ بعدَها الى حكومةُ “انتخاباتٍ” و “تَصريفُ وقت”. بَقيَت أسبابُ العودة غَيرَ واضِحَة المَعَالم والأثمان. لم يتَّضح كذلكَ إن كانت هذه العودةُ ناتِجَةً عن حساباتٍ داخليةٍ أم عن تقاطعاتٍ خارجيةٍ ذاتِ أبعادٍ إقليميةٍ ودُوَليَّة. وفي زَمَنِ التَّعطيل المتلازم مع الانهيار والمُساهِم في تَعميقه منهجياً، جاء مشروع موازنة ٢٠٢٢ مخيِّباً للآمال وهو ليسَ إلا انعكاسٌ تلقائيٌ لحِال التَّطبيعِ الذي يَحكُمُ علاقة مكوِّنات الحكومةِ الهَجينةِ التَّركيبة والمَسَار. في خطوةٍ استباقيةٍ دفاعيةٍ تهدف إلى التقليل من شأن القراءات التحليليَّة والنقديَّة للمشروع، وَضَعَت أوساطُ سياسيَّةُ رفيعةُ الانتقادات التي قد تَطالَهُ في إطار المزايدات. إلا أنَّ انتقادات “الغيارى” من المراقبين الموضوعيين تبقى حاجةً ملحةً يومَ يُصبِح التقييم مبنيًّا على قاعدة أنَّ “أيَّ شيء يَبقى أفضلُ مِن لا شيء”. إلا أنَّ النهوض يتطلب أن تكون التَطلُّعات بحجم التحدِّيات وليس بحجم الإمكانات فلا يصنَّفُ الفُتات انجازاتٍ ولا يُضحي تَمريرُ الوقت وتأجيلُ الخلافاتِ من قَبيل الحِكمة والحِنكة.

يَجِب ألَّا تُشَكِّل الموازنة مناسبةً أو مدخلاً لعودة جلسات مجلس الوزراء بل فُرصةٌ للعمل على إقرارِ إصلاحاتٍ جِدِّية وحقيقيَّةٍ تَنهَضُ بالاقتصاد اللبناني الذي يُعاني من تَضَخُّم مُفرَط مَصحوب بركود اقتصادي قاتل. فالمرحلة الحاليَّة تتطلَّب التركيز على وضع خطط لتعزيز القطاعات الإنتاجيَّة ومساعدتها على استعادة دورها المُحَرِّك للاقتصاد. تُشكِّل الموازنة الرُكن الأساسيّ للسياسة الماليَّة للحكومة قبلَ أن تكون أحد الشروط الإصلاحيَّة التي يطلُبها صندوق النَّقد الدُّوَلي كَدَليلٍ غلى غيابِ البديهيَّات لا بل الأدبيَّات الإقتصاديَّة. لبنان الذي أراد أحد عباقرته يوماً أن يُعَلِّم دول العالم كيف تُديرُ اقتصاداتها دونَ موازنات، يَقَعُ اليوم في شباك العبقريَّة نفسها إذ يَضَع الموازنة في إطار الامتثال الشكليّ لشروط صُندوق النَّقد مع إغفالٍ مقصودٍ لأبعادها الإقتصاديَّة ولدورها الأساسيّ في رسم معالمِ خطَّة النهوض الاقتصاديّ والماليّ. لا تعكس صفحات مشروع الموازنة الكثيرةُ العدد والقليلة المضمون عزماً على خوض التحدِّيات بل على تأجيل ما هو خلافيّ أو حتى اخفائَه تحت أشكال التفويض والتَّكليف.

يَقَع مشروع موازنة العام ٢٠٢٢ في قرابة ١٣٠٠ صفحة في الوقت الذي لا يتعدَّى عدد صفحات الموازنة الفدرالية الأمريكية الـ ٧٤ صفحة مما يوجب التذكير بأنَّ “خير الكلام ما قلَّ ودلّ” وليس ما كَثُرَ وطالّ! لامست نسبة العجز في المشروع المُقَدَّم حدود الـ %٣١ بعد أن ارتفع الى ١٥٥١٢ مليار ليرة مع إضافة سلفة الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان المحدّدة بـ ٥٢٥٠ مليار ليرة كحدٍّ أقصى. المشروع الذي يَغيب عنه الإنفاق الاستثماريّ والاجتماعيّ والصحّي والتربوي كما يَغيبُ الإصلاح والرؤيا، لا يَعدو كونَه إعلان نوايا حسنة وعودةٌ بالشَّكل إلى انتظام عمل السلطة الإجرائية دون الخوض في شروط العودة والممنوعات.

بإستثناء بعض الإعفاءات والتعديلات الطفيفة على الرُّسوم والشطور، لا يَتَطرَّق المشروع في العلن إلى مواضيع ماليَّة واقتصاديَّة مهمَّة. إلا انَّه من الواضح أنَّ الدولة الرؤيويَّة تُصَوِّب من خلاله على الشركات وعلى جيوب الموظفين من أجل زيادة ايراداتها تاركةً الهاربين والمُتَهرِّبين والفاسدين وغير المعترفين أصلًا بوجودها في مأمن من أي مشاركة. يُساهم هذا المُقتَرَح العظيم في انسحاب من تبقَّى ولم يُفلِس بدلاً من استقطاب مَن لَم يأتِ. المَلحَمَةُ النَّثريَّة لا تتضمَّن حتى نواةَ خطَّةٍ ماليَّةٍ اقتصاديةٍ نحن بأمس الحاجة إليها، ولا تأتي صراحةً على ذكر موضوع تصحيح الأجور بل تستعيد عنه بمساعدات أشبه بإعانات مُذلَّة. قد تؤلمنا أكثر مما تفاجئنا بنودٌ كبند تسديد الودائع القديمة بالليرة والبند الذي يُطلب فيه من المؤسسات العامة إحصاء موجوداتها بهدف بيعها. إلا أنَّ أخطر ما يتضمَّنُه المُجَلَّد الروائي، فسابقة إجرائيَّة تشغيليَّة تتمثَّل بإناطة وزير المال بصلاحياتٍ تشريعيَّة ماليَّة ونقديَّة لتحديد سعر الصرف المُعتمد ووضع أسس فرض الرسوم والضرائب. تَنضوي هذه الخطوة على الكثير من الالتباس لناحية حَصر تحديد سعر الصَّرف وتعديل وإنفاذ “الدولار الجمركي” ومُعَدَّل الضريبة على القيمة المضافة بشخص وزير المال الآتي من المصرف المركزي والمؤمن بالتعطيل سبيلاً لِتَسجيل المواقف.

ليس من المُستغرب أن يكون مشروع الموازنة فارغ المحتوى لناحية الإصلاحات والاستثمار وهما العَمود الفقري لأي خطَّة نهوض. ففي لبنان بات َنَقصُ الجِّديَّة في التعاطي مع الأزمات من خصائص الحكم وأهله. في مُطلَق الأحوال، لا يُمكن أن يُشَكِّل مشروع الموازنة، الذي سبقته البهلوانيات النقديَّة والماليَّة، بدايةً حقيقيةً للحلّ بغياب خطَّة شاملة للتعافي ترتكز الى إصلاحات بنيويَّة. إلا أن السؤال الأهم يبقى، كيف تُقَرُ خطة التعافي وكيف تَسلُكُ موازنةٌ ببنود إصلاحية طريقَها إلى الإقرار والتنفيذ إذا كانت العودة الى مجلس الوزراء تشترط استثناء التعيينات؟

أحكومة هي تلك التي يَضَعُ بَعضُ أعضائِها شروطاً على الدستور؟ أموازنةٌ هي تلك التي تُعِدُّها وتُقِرُّها حكومةٌ بات التئامها مشروطًا؟
ما يجب النَّظرُ إليه لا بدَّ أن يكون أشمل من مشروع موازنةٍ فضفاض. إنَّ ما نشهده من أحداث وإلهاءاتٍ وتطوّراتٍ لا يَعدو كونه فصلاً من مسرحية “تَمرير الوقت” بَل من مسرحيَّة “اللَّعِبِ على الوقت” حتى يحينَ موعِدُ الانتخابات بانتظار أن ينجلي ليلُ فيينا أو أن يَغيب قَمَرُها.

شارك الخبر:

مواضيع متعلقة: